يجمع الباحثون في مختلف الميادين على أهمية الدور الذي تلعبه الأم في حياة الناشئة والأطفال، وهم بذلك ينطلقون من الأهمية الخاصة لمرحلة الطفولة على المستوى البيولوجي والنفسي والاجتماعي. وتؤثر الأم على بناء شخصية الطفل بفضل عاملين أساسيين هما : النمو الكبير الذي يحققه الطفل خلال سنواته الأولى جسدياً ونفسياً، ثم قضاء الطفل لمعظم وقته خلال سنواته الأولى في عملية التعليم .
ويشير بلوم في هذا الصدد أن الطفل يكتسب 33% من معارفه وخبراته ومهاراته في السادسة من العمر، ويحقق 75% من خبراته في الثالثة عشرة من عمره. ويصل هذا للاكتساب إلى أتمه في الثامنة عشرة من العمر. ويشير علماء البيولوجيا أيضاً أن دماغ الطفل يصل إلى 90% من وزنه في السنة الخامسة من العمر، وإلى أن 95% من وزنه في العاشرة من العمر، ويؤكد غلين دومان أن 89% من حجم الدماغ الطبيعي ينمو خلال السنوات الخمس الأولى. وهذا من شأنه أن يؤكد أهمية مرحلة الطفولة المبكرة في حياة الإنسان على المستوى البيولوجي ومن المعروف أن نمو الدماغ أثناء الطفولة يترافق بزيادة
مرموقة في القدرات العقلية عند الأطفال. ويرجع فرويد، كما هو معروف، الأمراض النفسية من مخاوف واضطرابات، وعقد نفسية إلى مرحلة الطفولة المبكرة, وإلى الخبرات النفسية القاسية التي يعيشها الطفل في هذه المرحلة، فإذا وجد الطفل خلال هذه المرحلة في كنف الأسرة، فإن للأسرة دوراً حاسماً في تحديد شخصية الطفل، وتحديد مستوى نمائه وتكامله على مختلف المستويات الانفعالية والمعرفية والجسدية والاجتماعية.
وخلال السنوات القليلة الماضية، ومن خلال الخبرات والدراسات التي أُجريت، تبين أن الأم ليست هي تلك المرأة التي تعتني وتطعم وتهدهد وتواسي وتبتسم وتتكلم وتلاعب وتداعب، إنها كل ذلك وأكثر.. فهي التي ترعى كل هذا، فالمخلوق الذي بين يديها كائن له فرديته وشخصيته الخاصة به، ومع ذلك فهو بدون الأم لا شيء، إنه مستقل وذاتي الكيان، وخاص ولكنه لا يعيش بمفرده، وغير قادر على البقاء بذاته من خلال ذاته، وقد تم التعمق بهذا المفهوم شيئاً فشيئاً حول تبعية الرضيع لأمه التي سَتكوِّن بشخصيتها مراحل نموه.
إنه اكتشاف حديث، إن طفلك حساس إزاء كل شيء، يحس بعذوبة صوتك، وحنان صدرك، وابتسامة عينيك، وحب أناملك وهي تداعبه، وليداً ومن ثم رضيعاً. إن الوليد ومن ثم الرضيع على اتصال مباشر مع مشاعر الأم، وهو ليس بحسَّـاس تجاه ظاهرها وملامحها الخارجية، بل تجاه شخصيتها الحقيقية الفعلية والعميقة، إن الأم في مظهرها الخارجي هادئة الأعصاب، وغير متوترة، إلا أنها في الحقيقة قلقة في أعماقها، ومضطربة ومهمومة، وفي قلبها خوف دائم على طفلها، إنها في خشية من كل شيء، حتى لو تصورت أنها ليست كذلك، ويبدو هذا القلق في سلوكها، وفي جميع تصرفاتها. وليست بالطريقة
التي تتلقى بها الأم هذا الطفل، ورغبة أمومتها، وبشعورها بسعادة النفس. وما هدوءها بعد ولادته، سوى نقطة انطلاق لعلاقتها معه.
(لم يكن المختصون منذ سنوات مضت يجرؤون على التأكد، بالقوة التي عليها اليوم، بأن الأمهات هن اللواتي يُكَوَّنَّ الأطفال، وأَن طباعهم المستقبلية ستتأثر إلى حد كبير بالمعطيات الشخصية الفطرية المجهولة بعد، وبالعلاقات التي كانت تربطهم بأمهاتهم، ولكن يجب أن يكون ذلك مدعاة لإثارة هواجس الأم، نظراً لعظم المسؤولية الملقاة على عاتقها، أو خوفها وارتيابها بجدارتها، ذلك أن طريقة عيشها تتعلق إلى حد كبير بظروف حياتها وعلاقتها بمحيطها، مما ينبغي أن يقودها هذا الأمر أولاً وبشكل خاص إلى تقبل ذاتها كما هي، لأن في توازنها سيجد الطفل ما يرتبط
ويتعلق به، إن للكبار طباعهم وشخصياتهم التي تكونت، وليس بالإمكان فعل الكثير لإعادة تكوين الذات، بغية تربية الطفل، إنهم كما هم، المهم الشعور بالرضا والتوازن وبهجة الحياة والسعادة الداخلية).(2)
إن خصائص التعلق تؤثر تأثيراً عميقاً في سلوك الصغير ونموه وتطوره، فالعلاقة المتبادلة بين الطفل وأمه تتطلب الثبات والاستقرار، وإن تجربة الانفصال عن الأم قبل أن يبلغ الطفل ثلاث سنوات من عمره، ربما تكون من أقسى التجارب التي يمكن أن يعيشها الطفل، لذا يجب أن لا يحدث الانفصال، وإذا كان لا بد من حدوثه فيجب أن يعرف الطفل أين أمه؟ ومتى يستطيع أَن يراها؟ وأن يفهم بأن هذا الانفصال مؤقت.
«وقد أجرى العلماء تجارب على حيوانات المعامل وخاصة صغار الشمبانزي، التي انتزعوها من أماتها وأعطوها لحضانة أمات أُخريات، فوجدوا أن هؤلاء يصابون بالعصبية».
ويتأثر الطفل بهذه العلاقة خصوصاً من الناحيتين الاجتماعية والانفعالية، فالأم المتنبهة لإشارات الصغير والملبية لحاجاته بانتظام، والحاضرة بأحاسيسها وعواطفها في استجابتها للصغير، تهيئ له الشروط المناسبة لتنمية سلوك التعلق الآمن، وتعزز لديه الثقة بالكبار، فالطفل يعمم هذه الثقة في علاقاته مع الآخرين، بينما يتسم التعليق بالقلق عندما لا تنتبه الأم لإشارات الصغير، ولا تكترث بما يصدر عنه، ولا تظهر استجاباتها نحوه في الوقت المناسب، وهذا ما يؤدي إلى القلق والغموض وعدم ثقة الطفل بالكبار، ويظهر الخوف والهلع عندما يرى شخصاً غريباً
لأول مرة، وقد أوضحت بعض البحوث العلمية المتعلقة بملاحظة الأطفال مع أقرانهم في اللعب، أن درجة الأمن والطمأنينة مع الأم تؤثر في درجة التعامل مع الأقران، فدخول الطفل في علاقات اجتماعية، وتفاعلات متعددة مع الأتراب، يرتبط بدرجة شعوره بالأمن في علاقته مع الأم.
ويرى بعض الباحثين أن مظاهر الخوف المفرط التي يعاني منها الطفل تكون نتيجة لاضطراب التعلق بينه وبين الأم، ويظهر هذا الخوف في حالات متعددة منها: الخوف من الظلمة، أو الخوف من وقوع مكروه للأم، أو الخوف من الحيوانات، أو الخوف من الذهاب إلى الروضة أو المدرسة، وتترافق هذه المظاهر ببعض الاضطرابات العضوية الوظيفية، خصوصاً عندما تتسم العلاقات السائدة في الوسط الأسري بالاضطراب والتوتر.(3)
وقد لوحظ أن فقدان الحنان عند الطفل، وكذلك عدم الاهتمام يفقد الطفل شهيته للطعام، ويضطرب نومه، والأهم من ذلك فإن نموه يتوقف، وكان هذا مفتاحاً لاكتشاف هام لمرض يصيب الأطفال ولم يكن معروفاً سببه، وهذا المرض هو توقف نمو الطفل، رغم أنه يتناول غذاءه كاملاً وبكميات كافية، ويصبح الطفل قزماً أو متخلفاً في نموه عن عمره الزمني، واحتار الأطباء في تشخيص المرض، فجميع الفحوص الطبية تؤكد سلامة الجسم العضوية، إلى أن توصلوا بأن سبب هذه الحالة هو حرمان الطفل من الحنان، وسمي هذا (بالقزم العاطفي)، وهذا يمثل لنا تأثير الحرمان العاطفي على النمو
العضوي للطفل، والأخطر هو تأثيره على النمو النفسي، فقد وجد العلماء بأن الطفل تتأثر حالته النفسية مثل الكبار.. وقد يصاب باضطرابات نفسية مثل الكبار.. وقد يصاب باضطرابات نفسية كثيرة مثل العصاب والوسواس، ويفقد القدرة على التركيز ويتعثر دراسياً (دون سبب واضح) وربما انعكس عليه هذا سلوكاً عدوانياً في المنزل مع إخوته ورفاقه.
لذلك تستطيع الأمم أن تضطلع بدور أساسي في تنشئة الطفل، فالتنشئة القائمة على المحبة والديمقراطية والتسامح تعزز شعور الطفل بالأمان والثقة بالعالم، ونمو الطفل في جو مشبع بالمحبة والحنان يفعل فعله الكبير في تنمية ثقته بنفسه، وقدرته على مواجهة شروط الحياة السمحة والقاسية على السواء، بينما تؤدي معاملة الطفل بتشدد ونفور وكراهية إلى التعاسة والشقاء، وتجعله ينظر إلى العالم نظرة قاتمة متشائمة…