قبل أيام -وبينما كنت اقرأ في أحد المواقع الإلكترونية- استرعى انتباهي تعليق أحد القراء الفطنين على خبر يتطرق للنساء، بقوله إن النساء يستحققن قص ألسنتهن!
وبغض النظر عن رأيي في كلماته -التي لن أشرفها بتعليقاتي أيها الأصدقاء- إلا أنه أعادني إلى تذكر إحدى محاضرات الأدب الإنجليزي أيام الجامعة، وفيها تطرق البروفيسور إلى الأدب النسائي البريطاني في القرون الوسطى ثم تحدث عن نظرة المجتمع الدونية للنساء وقتها، وكان الحديث شيقا ذا استطراد، تفرعت منه نقاشات كثيرة ولكن كانت الرابطة الثقافية التي تربط بين حق التعبير لدى المرأة قديما من ناحية، وبين رفض المجتمع الباترايركي لهذه الحرية من ناحية أخرى من أكثر ما استرعى انتباهنا كطلاب. فقال البرفيسور إن تطبيق القوانين الاجتماعية الذكورية كان يتم بواسطة وسائل الإهانة الاجتماعية للمرأة.
وكمثال، فقد ناقش البروفيسور معنى كلمة «سكولد» scold في اللغة الإنجليزية، وهي اليوم ترتبط بمعاني التوبيخ والتقريع، ووضح كيف أن هذه الكلمة كانت تاريخيا تستخدم منذ القرن الثالث عشر إلى الثامن عشر في بريطانيا للإشارة إلى المرأة طويلة اللسان كثيرة الكلام. والمطلع على قواميس اللغة الإنجليزية التاريخية يجد معنى الكلمة مطابقا لذلك.
والمرأة «السكولد» هي المرأة التي تقاوم شفهيا سلطة زوجها أو تتجرأ علنا في المجتمع بالهجوم على النظام الذكوري. والنساء من هذا النوع، وخاصة هؤلاء اللواتي ينتمين إلى الطبقات الوسطى، فالطبقات المرفهة لها قداستها والطبقات الفقيرة الدنيا لا يأبه لها أحد، ممن تثبت عليها تهمة التمرد على النظام الباترياركي كن يعاقبن بطريقة علنية تضمن إهانتهن النفسية والجسدية إلى أقصى حد ممكن، عقابا لهن وردعا مستقبليا لكل من تسول لها نفسها الشريرة أن تقتدي بقدوتهن.
ومن إحدى وسائل العقاب تلك ما كان يدعى بالكوكينج، وكانت له طقوس معينة، تبدأ باختيار يوم مناسب مثل يوم السوق الأسبوعي الذي يجتمع فيه سكان المدينة بأغلبهم في مكان واحد لشراء مستلزماتهم، وفيه توضع المرأة الجانية طويلة اللسان على عربة ذات عجلتين يجرها حمار. وكانت المرأة المتهمة بالتمرد تساق إلى أقرب مستنقع أو نبع أو نهر ويفضل أن يكون منتن الرائحة، وتوضع المرأة على آلة مصنوعة من الخشب مثل الرافعة، مثبت بها كرسي تربط عليه المرأة ويسمى cucking stool أو الـducking stool وأمام الجمع المتحمس، تغمر المرأة المربوطة على المقعد كما هي في الماء الآسن عدة مرات إلى أن تعلن توبتها النصوح وينتهي المشهد بتصفيق الجمهور وصفاراته المعلنة انتصار سلطة الرجل كما هو مفروض في ذلك الزمان.
ولم يكن هذا الكرسي الوسيلة الوحيدة لمحق كرامة المرأة، بل كان من المعروف في بريطانيا في بداية القرن السابع عشر وجود ممارسات قمعية أخرى تستهدف لجم ألسنة النساء، ومنها الـscold bridle وهي عبارة عن جهاز معدني للتعذيب مصمم لعقاب النساء اللواتي يتجاوزن الحدود الاجتماعية أو اللفظية أو السلطوية للرجل. وكان رد المرأة على الرجل وجدالها معه أو حتى «النق» مرفوضا اجتماعيا ويصنف ضمن صنوف التمرد التي تستحق العقاب. وكانت المرأة التي يثبت عليها هذا الاتهام تعاقب بوضع رأسها في الجهاز المعدني الذي يطوق الرأس ويمتد منه إلى الفم قطعة حديدية بطول ثلاثة إنشات برؤوس مسننة مثل المسامير تضغط على اللسان لتشل حركته فتصبح المرأة غير قادرة على الكلام وإن حاولت الكلام فستجرحها القطع الحادة فيصبح تحريك اللسان من المستحيلات. ولزيادة إهانة المرأة توضع على صدرها لوحة يكتب عليها كلمة متمردة وتعاقب بالوقوف على باب منزلها على تلك الصفة مرتدية ذاك اللجام ليراها الجميع.
ربما لا يجب أن نغضب من التعليقات التي تؤيد قطع ألسنة النساء، فكما رأينا فالتاريخ يعيد نفسه، وأما الكائنات التاريخية فلم تنقرض جميعها مع الديناصورات فمازال لدينا الكثير منها.