ماذا تقول العرب عند إرادة التعبير عن أوج النشاط و قمة العطاء والتوهّج في الأشــياء ؟
في الواقع تطالعنا جذور القوم بتراكيب عدة في هذا المقام , سنجتزىء بعضا منها في هذه العجالة :
1-البزع ( ب ز ع ):
جاء في التاج للزبيدي : بزع الغلام ونة كرم فهو بزيع و هي بزيعة : صار ظريفا كيِّسـا مليحا .
و البزيع : الغلام يتكلم و لا يستحي كما قال الجوهري , و قال ابن دريد : الخفيف اللبق , و تسمّى عدة محدثين باسم بزيع .
و بوزع اسم علم إمرأة , قال جريد (في العباب) :
تقول بوزع قد دببْتَ العصا هلا هزئتِ بغيرنا يا بوزَعُ !
تقول العرب :
و لقد رأيتك في العذارى مرة و رأيت رأسك و هو داجٍ أفرعُ
و تبزع الشر تفاقم و زادت فوعته و هاج فأرعد , و هو مكان الشاهد . وفي لهجة الحورانيين وأهل البادية ، إذا أرادوا حث امرئٍ على عمل ما قالوا له : ان كان لديكَ بَـزْع فابْـزع ، وأرنا بزعـك ...
2-الفوع ( ف و ع ):
الفوعة من الطيب أهمله الجوهري , قال الزمخشري وجدْتُ فوعة الطيب و فَـوْحته و فورته (قلنا و فوعته بالعين) أي رائحته أو حدة رائحته ، و الفوعُ من السم حمته و حدته ( و فاعليته) وحمْأته , و فوعة النهار : ارتفاعه و في الحديث : "احبسوا صبيانكم حتى تذهب فوعة العشاء" أي فورته , و قال الزبيدي : مما يستدرك عليه (على القاموس) : فوعة الشباب أي أوله ، وأوج ربيعه وميعته .
وكنا في كلية الصيدلة(جامعة دمشق) ندرس علم الجراثيم ، فيقال لنا : هذا الجرثـوم تزداد فوعته في الأوساط القلويّة ،او الحامضية حسب طبيعته وتركيب خليته ، وهو تعبير سليم مئة بالمئة ، ويحق لجامعة دمشق أن تفخر بأنها أول جامعة عربية تدرِّس العلوم الطبية والصيدلانية باللغة العربية منذ عشرينات القرن المنصرم . ولا يزال أهل البادية وحوران واليمن والحجاز وكثيرون غيرهم ، يعبرون عن الانتشار النَّشِـط والسريع المكثّـف لسراب الجراد والبعوض وأمثاله ، فيقولون : فاع الجراد ، فاع البرغش .... الخ .
وفي الجذر ( ف و ع ) تطالعنا الفوعة وهي قرية في حلب ( شمال سورية ) و إليها ينسب دير الفوعة (كما في العباب) و إليها أيضاً يُنسب الشاعر حسين الفوعي (ذكره ابن العديم في تاريخ حلب) . قلت : و الفوعة قرية قرب مدينة العين في دولة الإمارات العربية المتحدة ، كانت تسمى "العوهة" و قُـلِـبَـتْ إلى الفوعة منذ عام 2000م تقريبا .
و أضيف هنا لبيان حجم هذا التغيير باسم العوهة الى الفوعـة : عَـوَّهَ السَّفْرُ عّـرَّسوا فناموا قليلا ، و عوه عليهم بمعنى عرَّج و أقام , قال رؤبة :
شأزٍ بمن عَـوَّه جدب المِنْطَلَقْ
ناءٍ من التصبيح نائي المغْـتَبَق .
* ويستخدم القوم مصطلحي ْ (التعويه و التعريس )، تعبيراً عن نومة خفيفة عند وجه الصبح و قيل بل النزول آخر الليل ، و كل من احتبس في مكانٍ ما فقد عوَّه ، و العاهة الآفة أو الداء ، معروفة .
# إذن ..
*يمكن القول أنَّ (عرج و عوج و عوه ) بمعنى واحد .
3-الميعة (م ي ع ):
ميعة الصبا و الشباب أي شدة نشاطه و ميعة الشباب و فوعته و ربيعه و كذلك فورته .
وأصل الميعة ، المَيْعُ : مصدر ماعَ السمنُ يَميعُ، إذا ذاب. والمَيْعُ: سيلان الشيء المصبوب. وقد ماعَ الشيءُ يَميعُ، إذا جرى على وجه الأرض. وتَمَيَّعَ مثله. والمَيْعَةُ: النشاطُ، وأوَّل جريِ الفرس، وأوَّل الشباب، وأوَّل النهار. والمَيْعَةُ أيضاً: صمغُ يسيل من شجرٍ ببلاد الروم، يؤخذ فيُطبخُ، فما صفا منه فهو المَيْعَةُ السائلةُ، وما بقي منه شِبْه الثَجيرِ، فهو المَيْعَةُ اليابسةُ ، والثجير معناه التفل . والخلاصة أن مَيْعةُ الحُضْرِ والشَّبابِ والسُّكْرِ والنهارِ وجرْي الفَرَسِ أَوَّلُه وأَنْشَطُه وقيل مَيْعةُ كلِّ شيء مُعْظَمُه وأوج فوعته ونشاطه .
4- الأوج ( أ و ج ) : جاء في تاج العروس للزبيدي :الأَوْجُ : ضِدُّ الهُبُوطِ (أي العلوّوالسموّ والارتفاع ) : وهو من اصطلاحات المُنَجِّمِين (أَورده في التكملة وأَغفله ابنُ منظور ، و الجَوْهَرِيّ وغيرهما ) ، ويخطئُ كثيرون من طلبة العلم والإعلاميين اليوم فيلفظون الكلمة خطــــأً ( أَوَجّ ) بفتح الواو وتشديد الجيم خطأً، وانما هي كما أثبتناها آنفاً ( أَوْج ) بتسكين الواو . أما وجه التعبير بها عن الفوعة وزيادة النشاط فواضح ، إذ لايصل الشيء الى قمة النشاط محققاً أعلى درجات العلوّ و الارتفاع إلا إذا كان في قمة نشاطه .
5- السَّـوْرَةُ : للسورة عدة معانٍ ، ما يهمنا منها هنا ، شِدّة، حِدّة ، هياج ، فقولنــا : هدأت سَوْرَةُ غضبه أي سَوْرة الشّهوة : قوّتها واندفاعها . ومنه- سورة من البرد أو الشَّراب أو غير ذلك ، و سورة السُّلطان : سطوته وقمّة طغيانه وتجبّره ، ويقال : هو ذو سَــوْرة في الحَرْب : أي ذو نظر سديد ، أو ذو بأسٍ وشجاعـة .
ومن الصحابة منْ اسمه ( سورة بن كعب) وقد عيّنه سيدنا عمر قاضيا بعد قصة مشهورة كشفت عن فهمه وسرعة بديهته وقضــائه العادل .
ونكتفي بهذا القدر والله الهادي الى سواء السبيل ، والحمد لله رب العالمين .