هناك وجوه تنزوي في زوايا الذاكره بمرور السنوات وتواتر الايام والليالي ، حتى تعتقد انك ما رأيتها يوما ولا تنشقت معها نفس الهواء في غرفة واحده، لم تؤاكلها لم تجالسها ، ولكن بين الحين والآخر تطل عليك تلك الوجوه فجأة عبر شاشة الذكريات تبتسم ، تلوح لك تقول انا ما زلت هنا ،، ثم تعود الى مستقرها في دهاليز الذاكره،،
البعض مر بمحطات عمري لحظات قليله ، ولكنه حفر عميقا في وعيي ونقش اثرا لا يمحى في نفسي ، وبعض الوجوه اصحابها يروحون ويغدون امام ناظري ليل نهار لا اراها ولا اشعر بوجودها او اثرها وكأنها ترتدي طاقية الاخفاء ..
من بين الوجوه التي سافرت بعيدا في دهاليز الذاكره ، زميلة جلست معها على مقاعد الدراسه لمدة سنه ، كنا معا في الصف الثاني الاعدادي ( ولا ادري مسمى الصف في ايامنا هذه) . (هناء) الفتاة الدرزيه ، كانت سمراء اللون ، ذات شعر اسود داكن ، اسنانها تلمع من شدة البياض وانفها مدبب ، ان اكثر ما كان جاذبا فيها هو خلقها الرفيع وادبها الجم . كانت ذات وجه طلق لا يعرف العبوس سبيلا اليه ، واثقة من نفسها .
ونحن صغار كنا نسمع عن عقيدة الدروز ولا نعلم عنها الكثير سوى بعض الحكايات التي يصح تسميتها بالطرف الساخره ، ولم اكن احسن التمييز بين الاشاعة والخبر الصادق .
مرة ، قررت ان اتوجه الى حيث تجلس ( هناء) لاسألها عن صحة ما اسمعه حول بعض معتقدات الدروز في الاطعمه الحلال والاطعمة المحرمة ، ذهبت والقيت السؤال في وجهها دون مقدمات. لم تغضب ولم تتغير ملامح وجهها ، بل ابتسمت وردت علي بجواب دبلوماسي ، وانتقلت للحديث في موضوع اخر ، في هذه اللحظة تعلمت منها اول درس مهم ، وهو معنى مداراة الناس .
في تلك الفترة قررت وزارة التربية تخصيص بعض الحصص للنشاطات اللامنهجيه ، وتم الاتفاق على استدعاء بعض اصحاب المهن او الدارسين في بعض التخصصات لالقاء محاضرات توعيه على الطلاب ، واذكر ان ادارة المدرسة اتفقت مع احدى الواعظات المؤهلات لتلقي علينا محاضرة دينيه ، كانت المحاضرة ناجحة ومفيدة ، وطلبت المعلمة منها تحديد موعد جديد لمحاضرة اخرى ، وقبل ان تغادر سألت الواعظة الطالبات ان كانت لديهن أي اسئلة ، وهنا وقفت هناء فجأة وقالت ( انا درزيه واريد ان اعرف حكم الدروز في الاسلام) . سكتت الواعظة برهة ثم اخبرتها انها ستجيب عن سؤالها في المرة القادمة بعد ان تعود الى المراجع المعتبرة وتتثبت من الجواب ، وبعد حوالي اسبوع حضرت الواعظة في الموعد المحدد والقت محاضرتها وقبل انقضاء الوقت بدقائق ، قالت لهناء ( بعد بحث واستقصاء اود الاجابة عن سؤالك ، فاقول ان الدروز ليسوا على ملة الاسلام وان من يعتقد منهم بمبدأ الحلول لا يحل اكل ذبيحته ....) . لم تكن هناء بحاجة لسماع المزيد ، لم تنطق باي كلمة فقط ضمت يديها امام ذقنها واغمضت عينيها وبدأت تذرف دموعا ساخنه بصمت موجع ، تأثرت الواعظة وكل الموجودين بهذا المنظر ، حاولت ان تخفف عنها فقالت ( انا كنت مضطرة ان اجيبك بصراحة عن سؤالك فهذه امانة في عنقي ، ولكن ارجوك ، عليك بنفسك ابحثي عن طريق الهداية بنفسك ) . ولكن هيهات ان تهدأ نفس تلك الفتاة التي خرجت من طور الطفوله منذ سنوات قليله .
دق الجرس ايذانا بانتهاء وقت الحصه وما زالت الواعظة تحاول التخفيف عن هناء ولكن الاخيرة رمت برأسها على الطاولة امامها واستمرت في البكاء الصامت . هنا اصبحت الصورة غائمة امام ناظري ، ارى زميلاتي متحلقات حولها يحاولن التخفيف عنها ، لا ادري من أي الزوايا كنت اراقب المشهد والعجيب انني لا اذكر من هناء الا هذه الصورة الاخيره ، ومهما حاولت لا اتذكر أي شيء من هناء بعد تلك اللحظه ، وكأن عيناي تأبى الا ان تتجمد صورتها والدموع تملأ وجنتيها ، بعد كل تلك السنوات الطويله اتساءل لماذا لم اذهب اليها واحتضنها واخفف عنها ، واخبرها بانها عزيزة على قلبي وانني اتقبلها كما هي .
منذ ذلك اليوم، وانا لا ارى الدروز الا من خلال هناء ، واشعر بميل قلبي نحوهم ، انه درس في حسن الخلق والطيبه والوداعة ، علمتني اياه تلك الفتاة الصغيره .
صديقتي هناء ، اذا كنت في عالم الاحياء اتمنى ان تكوني بخير وعافيه وان تكون نفسك قد هدأت ، وان تفتخري بالاثر الذي حفرته في قلبي ، اما ان كنت قد سافرت الى الحياة السرمديه اتمنى ان تجد نفسك الراحة والسكينة عند من حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرما .