وأتجول في بلاد الحريات لأرى كثيرا من السلاسل تتشابك أمامي.. أنظر في عيون من يحملونها، وأشعر بالأسى لما نحن فيه.. هل الأديان هي التي تضع سلاسلها في رقابنا، أم نحن الذين نضع السلاسل في أعناقها، ثم نجلس نتفيأ ظلال سوادها، ونندب حظوظنا؟
يستجرني الحديث لأكتب على الورق مأساة امرأة عرفتها عن قرب وتجنّدت روحي بروحها، رغم اختلافنا دينا ومنبتا..
الدين هنا هو الأهم وهو المحور، وهو المتهم وهو القاضي.. أنتمي إلى الإسلام، وتنتمي إلى المسيحية، أنتمي إلى مذهب السنة وتنتمي إلى؟ هنا توضع علامة استفهام قاسية لتبدأ بعدها سطور العذاب والألم لهذه المرأة التي تنطق ملامحها بشفافية مريمية..
لم يسمع في ديني متعدد المذاهب أنه لو قدر لطرف الزواج من الآخر، فإن عليه أن يتبع مذهب الطرف الآخر إلى حدّ الموت، ولم يسمع في ديني أن الزواج يتمّ وفقا لمقاسات تلك المذاهب، لكني هنا سمعتها من هذه المرأة التي اضطرت أن تتزوج على نهج طائفة مسيحية معينة رغم انتمائها إلى أخرى، وليت الأمر توقّف عند هذا.. ففي مثل هذا الزواج يلحق بالزوجين أشدّ أنواع العقاب التي كانت تجسدها تلك المرأة، وهي تتحدث مرددة عبارة تتكرر في حديثها مثل لحن يوشك على نهايته: " صليبك.. صليبك"..
في بداية الأمر لم أعِ ما تعنيه هذه الكلمة من مرّ الألم والاغتصاب، ولكني سرعان ما أدركت أيّ أنواع الصلب التي ستلحق بهذه المرأة إن دعتها أسباب مهما كانت إلى طلب الطلاق..
ولكن، أيّ طلاق هذا الذي تطلبه امرأة صلبتها كنيسة على جسد رجل لتحتمل منه ما يفوق التصور حتى آخر العمر المقدر لها.. زوج يدخل على شابة وهو يخادع في أهم مقومات الزواج وهي الطاقة والقدرة الجنسية، لتفاجأ صبية في أوج اشتهائها للحياة بزوج يكبرها عمرا، ويقلّ عنها اشتهاء للحب وللحياة.. ماذا يمكن لمثلها أن تقول، ولمن ستلجأ إلا للكنيسة التي هي الأب الروحي لمن ينتمون إليها..
"صليبك.. صليبك" ..يردّدها راعي الكنيسة، وتتحاشى المرأة الواقفة في حضرته من رفع عينيها خشية أن تفتضح ثورتها المحرّمة.. أيّ صلب هذا في قرن رفع قرنيه إلى السماء والفضاء وحرّك النجوم والقمر.. أيّ صلب هذا في رحلة حياة ستكون مدمّاة بالأشواك مع زوج عاجز، وامرأة تلتهب حبّا للعشق، وللإنجاب.. ومن أين سيأتي الإنجاب لامرأة تتحوّل إلى صليب مكسور في عرين فارس مهزوم لا يملك إلا أن يلقي بفتات الخبزللطائر الجريح..
تعود إلى راعي الكنيسة متضرّعة.. يا سيّدي أريد أن أنجب.. كيف أنجب والرجل عاجز.. تَخيّلُ امرأة تستجدي أمومة تشعر أنها أبسط هبات الطبيعة لها منظر مُدمٍ حقّا، ويعود راعي الكنيسة إلى ترديد جملته العجفاء " صليبك.. صليبك".. يا سيدي أما آن لهذا الصلب أن يتمرد على خشبه، أما آن لهذا الخشب أن يتمرد على محرقته.. تشفق الطيور وتنادي في براري الله المتسعة بالتسامح " يا نار كوني بردا وسلاما"..
ها هي الآن بلاد الانفساحات تجد الحلول لكلّ ما يخطر للعقول من أفكار.. هناك بنوك يتبرع بها الأخيار بنطفهم لوهب الأمومة والأبوة لمن حرمها، وذلك من وراء غطاء قتيم.. إنه الخير، وفعل الخير في سبيله تقوى الصلبان، ويشتدّ عودها، وتورق الأشجار في المحارق، وتلجم طيور الحب حناجرها، فالنّار هنا باردة قد تحولت إلى جليد.. إنه الحلّ الوحيد لإشباع غريزة رجل شرقيّ بالأبوة، والرأفة بأنثى كليمة تمرّدت عليها الحياة.. وتعود المرأة إلى راعي الكنيسة وهي تحسب أنّ الفرج قد أتى، وأنّ الغيوم ستهطل أمطارا وردية.. يا سيدي سأحبل بنطفة غريبة.. أليس في هذا الزنى، وعصيان الرب؟ إنه يصرّ على أن أنجب.. أهله.. مجتمعه.. أنانيته، جشعه الذكوري يريدني أن أكون الوعاء لحمل وهميّ يحمل عنوانه.. ماذا أفعل يا سيدي؟
"صليبك.. صليبك".. تسيلان على شفتيه كلمتين خفيفتين على اللّسان ثقيلتين في الميزان.. لا طلاق يا امرأة ولا خلاص، ستكونين عندها الزانية في مثل هذي الحال، وليس هناك غير هذا.. شُدّي حبلك جيدا وتمرجحي يا امرأة في العراء، ولتلعقْك الغربان..
ستتحوّل المرأة المريمية إلى وعاء، وسينبت من رحمها صليب جديد، ومن منكم بلا خطيئة، فليرمها بحجر.
.......
هنا يحلو للبعض وضعُ كثير من النقاط الحمر على السطر، ولعلها تتحول إلى غدران، وأنهار تغرد لحياة تنطلق سلسبيلا، لحياة تضع السلاسل في أرجل مشرّعي الديانات على أمزجتهم..