انتشرت قبل سنوات قضية إرضاع الكبير، وهي التي أفتى بها سفيهٌ أزهريّ لا يقال فيه أكثر من هذا أو هو من إنصاف العلماء، وما أخطرهم على الأمة!!! وشاع الاستشهاد بقضية أرضاع سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما.
وحديث رضاع سالم مولى أبي حذيفة ورد في مسند أحمد كما يلي: عن عائشة عليها السلام قالت : أتت سهلة بنت سهيل بن عمرو ، وكانت تحت أبي حذيفة بن عتبة، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت : إن سالما مولى أبي حذيفة يدخل علينا ، وأنا فضل (أي في ثوبٍ واحد) ، وإنا كنا نراه ولدا، وكان أبو حذيفة تبناه كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وآله زيداً ، فأنزل الله :
" أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله " سورة الأحزاب/5 .
فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند ذلك أن ترضع سالماً، فأرضعته خمس رضعات ، وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة ، ويقول بعضهم: فبذلك كانت سيدتنا عائشة تأمر أخواتها وبنات أخواتها أن يرضعن خمس رضعات من أحبت عائشة أن يراها ، ويدخل عليها ، وإن كان كبيرا ، خمس رضعات ، ثم يدخل عليها ، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وآله أن يُدخلن عليهنَّ بتلك الرضاعةِ أحداً من الناس حتى يرضع في المهد( أي في مرحلة الرضاعة وهي السنتان)، وقلن لعائشة : والله ما ندري لعلها كانت رخصة من رسول الله لسالم دون الناس.
وقد ورد في صحيح مسلم تفصيل هذه القصة في ستة أحاديث، وآخرها في لفظ مسلم: وقلن لعائشة : والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا .
ينظر: صحيح مسلم باب رضاعة الكبير 4 / 168 170، وفي سنن النسائي في آخر باب رضاع الكبير من كتاب النكاح 2 / 84 فلا يدخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا يرانا، وفي طبقات ابن سعد 8 / 270 271 بترجمة سهلة، وفي روايته: أبى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذن بهذا ، وقلن : انما هذه رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة ، وفي ترجمة سالم 3 / 87 ، من الطبقات قريب منه.
ولقد رأيت أغلب الفقهاء والمحدثين يدورون في تفسيرهم للقضية وتأويلاتهم لها حول خصوصيتها، وأنها خاصة أو رخصة أرخصها سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لسهلة فأرضعت سالما وكان كبيراً.
بل في رواية أنه كان ذا لحية وشاربين !!!
ولننظر في القصة نظرة تشريحية:
سهلة تقول: وإنا كنا نراه ولداً..
وتقول: وكان أبو حذيفة تبناه كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً.
ونحن هنا ليستقيم المنطق الشرعي أمام احتمالين اثنين:
الأول: تبنى أبو حذيفة سالماً، وهو صغير السن، وأرضعته سهلة في فترة المجاعة المحرِّمة شرعا أي الحولين، ورأى زوجها أن تحريم التبني قد أنهى المرحلة بكاملها، وألغى رضاعة سالم من سهلة، فجاء الأمر النبوي تأكيدا لحكم الرضاعة وأنها تحرّم، كانت وما زالت، وطابت بذلك نفس أبي حذيفة.
الثاني: هناك محرمية بين سالم وبين سهلة زوج أبي حذيفة، فهي خالة أبيه أو أمه بالرضاعة، أو أي قربى ذات محرمية، ولكن هذه القربى غير متأكدة في نفس أبي حذيفة، فكان يمتعض من دخول سالم على أم حذيفة (سهلة) وشَكَتْ هي ذلك لرسول الله فأمرَها أن تُرضع سالماً...
ورسول الله يعرف المحرمية وإنما أراد أن تتأكد لدى أبي حذيفة فتأكدت وزال عنه الامتعاض نهائيا... فكيف يأمر رسول الله رجلا بشاربين ولحية، أن يرضع من امرأة لولا أنها من محارمه ؟؟؟!!! ورسول الله يغار على أمته أكثر من غيرتهم على أنفسهم بالتأكيد.
ويكون قوله عليه السلام لسهلة: " أرضعيــه" بمثابة رسالة فهمها زوجها أبو حذيفة وطابت نفسه وصارت تتقبل دخول سالم على بيته ورؤية زوجه بثوب واحد
ما دام رسول الله وهو أغير الناس على أعراض المسلمين أمره بالرضاعة، وهي الأكبر من رؤيتها بثوبٍ واحد... وما كان رسول الله ليأمره بهذا لولا أنه محرم عليها وهي محرّمة عليه ألبتة.
يستحيل أن يأمر رسول الله رجلا بالغا بمباشرة ثدي امرأة لا تحلُّ له، وهو أشدُّ غيرة منا بمئات المرات.
من جهة ثانية، يقولون خصوصية !!!
ما هو دليل الخصوصيّــة؟؟؟ لا خصوصيّة بدون دليل، ولا دليل هنا اطلاقا.
في علم الدلالة وفقه اللغة يُصرف الكلام إلى الحقيقة ولا نلجأ إلى المجاز الا عند تعذر حمله على الحقيقة، ومن هنا نستدل والله أعلم أن القضية كما أشرنا، وهو اجتهاد قادنا اليه فهمنا لسيرة المصطفى وغيرته على أعراض الأمة الإسلامية،
وفهمنا للسنّة ومعنى الخصوصية فيها، ودفاعا عن السنة المطهرة وكتب الحديث التي يحاول الزائغون أن يطعنوا بها، وخاصة صحيحي البخاري ومسلم، وهما أصحُّ كتابَيْن على وجه الأرض بعد القرآن الكريم.
والقصة واردة في صحيح الإمام مسلم رحمه الله، والصحيحان شوكة كانا ولا يزالان في حلوق وعيون الزائغين الضالّين المضلين.
القضية إذن:
كان سالم محرّما على أم حذيفة، قبل أن يتبناه زوجها، ثم تبنّـاه وصار (بحكم التبنّي) يدخل عليهم بل صار من الأسرة، ولما حرَّم الإسلام التبني ظنَّ أبو حذيفة أنَّ الله تعالى حرَّم معه جميع ما لابس القضية قبل التحريم فكان يمتعض من دخول سالم على أهله، وهي شكَتْ من امتعاضه للنبيّ، فطلب منها أن ترضعه أمام أبي حذيفة ليتأكد أنه لا يزال محرّما عليها، وأن التحريم إنما طال التبنّـي فقط.
وهكذا فالعودة للجذور تحلُّ كثيرا من قضايا الفقه في شريعـتنـا الغـرَّاء.