الكاتب الصحفي:عبد الله الجفري-الإمارات العربية المتحدة-خاص بـ"وكالة أخبار المرأة"
إن من يكتب عن هذه المرأة مقالاً في عجالة ، فإنه في الحقيقة سيبخسها حقها ، وأنا من الكتاب المتواضعين الذين يتجاسرون للكتابة عنها للمرة الثانية .. الأولى كانت في العام 2003 حين تابعت لها ندوة عرضت فيها تجربتها الشخصية أمام جمع من النساء والرجال الذين اكتظت بهم قاعة غرفة تجارة وصناعة دبي ..حينها كتبت عنها مقالاً بعنوان "لبنى القاسمي .. بلقيس العصر" اسمحوا لي أن اعرج بعجالة لماذا أطلقت عليها تسمية من أغوار التاريخ العربي ومنحتها لقب
لامرأة حكمت مملكة سبا باقتدار ..؟ حقيقة قبل ابتداء الندوة راودتني بعض الهواجس والتساؤلات عن هذه الندوة وفوائدها ، وهل تستحق عناء المشوار الطويل ، ومرد تلك الهواجس والتساؤلات هي الخيبات التي انتابتني من حضور بعض الندوات والمحاضرات التي يعلن عنها ويسوق لها ولشخصيتها بشكل مبهر ، وإذا بك تفاجأ بأنها محاضرة ركيكة أو ندوة شعرية لا تحرك فيك أي أحاسيس وجدانية ، فتضطر للبقاء في جو يسوده التكلف والمجاملة ، فتتخلله وبتكرار مزعج موجات من مجاملات التصفيق ، والتي يبدأ ضجيجها من مقاعد الصفوف الأمامية لتمتد تموجاتها حتى الشاطئ الأخير من مقاعد القاعة .. تتسائل ما الذي قاله المحاضر أو الشاعر ليستحق كل هذا الضجيج ..؟ فيرتد إليك صدى همسك .. ألا تدري بأنه فلان أو فلانه ..؟ فتستمر مجبراً في مكانك حتى تجد فرصة للانسحاب من هذا الجو العجيب..
حقيقة حينها أنا والعديد من الحضور لم نعرف الشيخة لبنى سوى من صورها التي ترافق عادة تصريحاتها في بعض الصحف والمجلات المحلية أو حين نراها على الشاشة من خلال التلفاز عند رعايتها وحضورها لفعاليات عدة مثل تسليمها بعض جوائز التفوق والتميز ..
قبل بداية الندوة راودتني الهواجس التي اسلفت ذكرها وخشيت أن تكون ندوة كمثيلاتها .. ولكن هذه الهواجس والمخاوف سرعان ما تبددت .. وقد تتسائل كيف ولماذا ...؟
حين بدأت الندوة وبعد سرد مقتطفات عن سيرتها الذاتية من قبل مقدم الندوة ... صعدت الشيخة لبنى إلى المنصة بخطوات واثقة وطلة زاهية امتزجت فيها قوة الشخصية والرقة الأنثوية ، وبكل تواضع حيت الحضور بكلمات عطرة فاح أريجها من ثغرها الباسم ليتموج صداها كسينفونية أتقن عزفها ، فانسابت برقة إلى مسامعنا فاضفت علينا روح من السكينة والطمأنينة بدلاً من التوتر الذي انتاب البعض منا .. وبصورة سحرية فرضت علينا الانتاه لقادم حديثها .. استطاعت باقتدار ملفت وبسرعة فائقة جذب الانتباه لحديثها .. بددت بطريقة دراماتيكية متدرجة هواجسي وتخوفي من سطحية المحاضرة .. كان لها حضورها المميز خلف منصة الحديث .. تمتعت بمقدرة فذة في ترتيب أفكارها ، وتمتعت بملكات لغوية بلاغية نادرة .. إذ استطاعت بجدارة ملفتة مزج حديثها ببعض المصطلحات الاجنبية الواضحة المعنى دون تكلف أو تعمد في إقحامها كما يفعلها بعض متصنعي ومتصنعات الثقافة والتثقيف الغربي .. ابتدات بسرد حياتها بايجاز بليغ منذ نعومة أظفارها ، وخاصة قبل الطفرة النفطية في الامارات،مبينة بأنها عاشت حينها حياة بسيطة في ظل أسرة كان يفترش أبناءها الارض أثناء نومهم دون سرر أو أرائك وثيرة ، وتخاط ملابسهم في البيت لا في محلات ودور الأزياء .. لتبين للحاضرين وخاصة بنات جنسها من الحضور بأنها قد مرت وعانت مثل الآخرين شظف العيش ،ولم تخلق وفي فمها ملعقة من ذهب كما يتصور البعض بحكم إنتماءها لأسرة ذات مكانة اجتماعية عريقة ومرموقة في امارة الشارقة، فأشارت إلى أن اباها كان من الرجال المكافحين والطموحين في بناء حياته وحياة أسرته ، وأمها تواقة لتحقق ابنتها طموحاتها العلمية لتأمن بهذا العلم مما يخفيه لها الدهر كأنثى .. فمن هذه البيئة الجسورة انطلقت لبنى متسلحة بإرادة قوية وصلبة لتحقيق ما تصبوا إليه من نجاح ، كانت تضع لها في كل مرحلة من مراحل حياتها هدفاً وتسخر كل جهودها وطاقاتها لتحقيقه .. يسيطر عليها الغضب والحسرة إذا لم تحقق قمة ما تطمح إليه ،فمنذ صغرها كانت تصر على أن تكون الأولى بين زميلاتها في المدرسة ،فإذا ما احرزت لظرف ما المركز الثاني في صفها عادت إلى منزلها باكية منكسرة ، فتدرك أمها حينها بأنها ستقلب كيان البيت هماً وغماً وحسرة .. هكذا كانت لبنى عنيده في اصرارها على تحقيق أهدافها وطموحها في التميز والتفرد ، فهي لا ترضى بأقل من القمة ،فكان ذلك ديدنها في باقي مسيرة حياتها .. فحين تطرقت لبنى إلى باقي وأهم مفاصل ومحطات حياتها أكدت لبنات جنسها وبقية الحضور من الجنس الآخر أن لدى الإنسان حدود أو مساحة معينة للبذل والعطاء ،ولكن إذا ما طعمت هذه القدرات بإرادة قوية لتحقيق المزيد ،فإن هذه المساحة أو حيز القدرة تزداد بتلفائية ملفتة بحيث أن الشخص بعد إنجاز أهدافه الطموحة والتي فيها التحدي ينبهر بقدراته وطاقاته الخفية التي لو استغلها لأنجز المعجزات .."حقيقة بحديثها أدلت بفلسفة في اهمية فهم قدرات الذات الكامنة"
أشارت إلى أنها كغيرها من بنات جنسها عانت من كوابح اجتماعية وقفت امام تحقيق طموحاتها ، ومنها على سبيل المثال صعوبة اقناع بيئتها الاجتماعية وأهلها بمواصلة دراستها في الخارج وخاصة في حقبة زمنية لا يتحقق ذلك للذكور إلا على نطاق ضيق فما بال تحقيقه للاناث ، فاستطاعت بحكمتها واصرارها تحقيق طموحها بالدراسة في الخارج ،في تخصصها الاول مجال الحاسب الآلي ،واسهبت في شرح صعوبات التأقلم مع بيئة مغايرة لبيئتها ،وصعوبة تأقلمها مع تخصص ذكوري حينها حتى في امريكا موطن دراستها، وما عانته من صعوبة بعد عودتها في كيفية تقبل المرأة للعمل في مجال تقني كان حكراً على الرجال، شرحت كل ذلك وكيف استطاعت باصرارها على النجاح وفرض احترامها بأدائها والتزامها على الآخرين، مما جعل القيادة في الإمارات تصدر أمراً بتعيينها رئيساً تنفيذياً لتجاري دوت كوم ، والقيادة اختارتها لهذا المنصب لكفاءتها وجدارتها ، وبعثت رسالة للمجتمع أن المرأة الامارتية يمكنها أن تتبؤ أعلى المناصب .. عرجت لبنى القاسمي بطريقة سلسة ولبقة إلى امور تفصيلية أخرى عن قصص نجاحاتها المتوالية كفتاة عربية تعيش نفس الظروف الاجتماعية التي تعيشها بقية بنات جنسها في بلدها ،وفي أقطار عربية أخرى ،إن لم تكن ظروف بيئتها الإجتماعية أكثر تعقيداً ، ولكنها بينت لبنات جنسها تجاربها في النجاح بالرغم من تلك الكوابح .. فكانت متفوقة ومتميزة بإنجازاتها ومليئة بالثقة وقوة الشخصية ...
هذه بعض إضاءات لجوانب شخصية لبنى القاسمي التي هيئتها لتبوء أعلى المناصب القيادية فيما بعد ،فلبنى القاسمي هي قائدة تأسيس وتغيير مؤسسي باقتدار .. تحدث تغييراً ملموساً في أي موقع تتبؤه ، ولذلك كانت جديرة بحمل حقائب وزارية ،فعُينت كوزيرة الاقتصاد والتخطيط ،ثم وزيرة لوزارة التجارة الخارجية ،ووزيرة التنمية والتعاون الدولي ووزيرة الاقتصاد والتخطيط فأحدثت تغييرات تطويرية في تلك الوزارات ، وتشغل حالياً منصب وزيرة التسامح في الحكومة الفيديرالية لدولة الإمارات العربية المتحدة منذ فبراير (شباط) 2016 ، وهذه الوزارة هي الأولى من نوعها في العالم ، اختيرت لتأسيسها نظراً لأهميتها في تحقيق رؤية الامارات المستقبلية ، حيث يفتقد جزء كبير من العالم إلى التسامح والتعايش وخاصة منطقة الشرق الأوسط التي تعج بالحروب والتوترات ،والتطرف ،فلبنى هي الأجدر لوضع أسس راسخة لوزارتها الجديدة ،والتي هي تجسيد لروح التسامح والتعايش في دولة الامارات حيث يعيش على أرضها أكثر من 270 جنسية من مختلف أصقاع المعمورة بسلام وأمان واستقرار ومساواة .
هذه المرأة لفتت أنظار العالم بقدراتها وشخصيتها ،فصنفتها مجلة "فوربس" الأميركية كأقوى امرأة عربية وفي المرتبة 70 عالمياً ضمن القائمة الرئيسة لأقوى الشخصيات العالمية النسائية التي ضمت 100 سيدة في العالم عام 2010،وفي عام 2013 تصدرت قائمة مجلة CEO لأقوى 100 امرأة عربية للسنة الثالثة على التوالي، كما نشر موقع "أرابيان بزنس" Arabian Business الإلكتروني قائمته السنوية الخاصة بأقوى 100 امرأة عربية للعام 2016 ، فنتائج التصنيف يقوم على إحصاء النساء العربيات الأكثر نفوذاً حول العالم ،اللواتي أثبتن قدرة كبيرة على التأثير في الحياة في محيطهم وعلى مستوى العالم ، احتلت وزيرة التسامح الإماراتية الشيخة لبنى القاسمي المرتبة الأولى في التصنيف للسنة السادسة على التوالي، دعمتها في ذلك مسيرة إدارية وسياسية طويلة، كما أنها حاصلة على عدد من الجوائز وشهادات التقدير المحلية والدولية على دورها في المجال الاقتصادي والسياسي ، ولها اسهامات في النشاطات الأكاديمية ،والإجتماعية والانسانية ، ففي الجانب الأكاديمي ،فهي عضو في مجلس أمناء كلية الجودة الإلكترونية الشاملة بدبي، و كلية دبي للإدارة الحكومية ومجلس أمناء كلية ثندربيرد، وكلية الدراسات العليا للإدارة الدولية فينكس ولاية أيرزونا في الولايات المتحدة، أما في الجانب الاجتماعي والإنساني فهي عضو في مؤسسة الإمارات المعنية بشؤون النفع العام – أبو ظبي، وعضو في مجلس إدارة "جمعية أصدقاء مرضى السرطان"، ، كما أنها عضو سابق في مجلس إدارة مركز دبي للتوحد و في مجلس أمناء جامعة زايد.
نعم أنها معالي الشيخة لبنى القاسمي بإنجازاتها ، ونجاحاتها المبهرة ،وقوة شخصيتها .. أخالها كنجم ساطع أطل علينا بوهجه المضيء من أعماق التاريخ العربي الحضاري ليبدد ظلمة عصرنا العربي الرديء.. إنها فعلاً تستحق بجدارة أن تحمل لقب "نجم المرأة العربية" ،،،،