رِحلةٌ و لا أَحلى
(1)
كانت يارا تتأبطُ كتاباً وثائقيّاً كبيراً و تتَّجه نحو بيت لِيا، و كانَ دانيال يلحَقُ بها كظلِّها، و كانَ أصغرَ المجموعةِ، فهو في الصفِّ الثَّاني، و يبدو و كأنَّه في الحضانةِ بجسدِهِ النَّحيلِ الأسمرِ و شعرِه الأسودِ الذي يغطي عينيه.
و كعادتِها، دفعَت بوَّابةَ حديقةِ منـزلِ لِيا بكتفِها بسرعةٍ بعد أن ألقَتْ تحيَّةَ صباحٍ مُختَصَرةٍ، و جلسَت على طرفِ أحدِ أحواضِ الوَرْد و فتحَتْ كتابَها الكبيرَ، و نادتِ الجميعَ :
ـ تعالوا... تعالوا... لقد اكتشفْتُ سرًّا مهمًّا سوف نحصُلُ من ورائه، في عطلةِ الرَّبيع هذه، على ثروةٍ مِن...
قال دانيال :
ـ مِن الذَّهبِ.
هزَّت رأسَها إلى اليمينِ و اليسارِ و قالتْ :
ـ لا.. لا..
قال سامي :
ـ من البترول ؟
هزَّت يارا رأسَها من جديدٍ، فقالَت لِيا و قد نسيَتْ إلى أيِّ مدًى وصل بها سوءُ تفكيرِها بيارا قبلَ قليلٍ من وصولِها :
ـ من المعلوماتِ..
فنهضَتْ بحماسٍ و عانقَتْها و قبَّلَت خدَّيْها قائلةً :
ـ أحسنتِ يا لِيا.
ـ و لكن كيف عرفتِ ؟
سألَها دانيال و سامي معاً، فابتسمتْ و هي تشيرُ إلى الكتاب الوثائقيِّ قائلةً بلهجةٍ حاولتْ ألا تُظهِرَ فيها أيةَ مشاعرِ غيرةٍ :
ـ الأمرُ لا يحتاجُ إلى عبقريةٍ : يارا و كتابٌ.
دُهِشَ الجميعُ، و ضحكَت يارا و هي ترمُقُ صديقتَها بنظرةِ إعجابٍ، ثم راحَت تقرأُ بصوتٍ عالٍ من كتابِها الوثائقيِّ و توجِّه معظمَ قراءتِها إلى لِيا بالذَّات :
ـ " تُشكِّل النـُّزهةُ على الأقدامِ اكتشافاً سحريّاً للأولاد الَّذين لم يكتشفوا سرَّ الطَّبيعةِ الخلاَّبِ بَعْدُ، خاصَّةً إن كانت رحلةً طويلةً ليومٍ كاملٍ، و سوفَ يعودون و قد امتلأوا نشاطاً و حيويةً، و ملأوا جَعْبَتَهم بأحلى الذِّكرياتِ و بالمعلوماتِ الواقعيَّةِ ".
و نظرَتْ إلى الجميعِ :
ـ هه ؟ ما رأيُكُم ؟
قفزَ سامي قائلاً :
ـ نزهةٌ طويلةٌ ليومٍ كاملٍ ؟ لم أكنْ أعرفُ أنَّ الكتبَ الوثائقيةَ تحملُ أفكاراً جذّابةً كهذه.
و قالَ دانيال و هو يتأملُ كتابَ يارا بإعجابٍ :
ـ أما أنا فأعرفُ أن في الكتبِ الوثائقيةِ أسراراً، و لكن، و الحقيقةُ تقالُ، فإنَّ أحداً لا يستطيعُ اكتشافَ هذه الأسرارِ إلا يارا.
كادت لِيا تَصرُخُ في وجهِ دانيال قائلةً إنَّه أغبى ولدٍ في المجموعة، بل في الحيِّ، بل في القريةِ كلِّها لأنه يمجِّدُ يارا دائماً بسببٍ و بغير سببٍ، لكنها عدَلْت عن هذا عندما سمعْت ردَّ يارا المتواضعَ و هي تقولُ له :
ـ الأمرُ لا يحتاجُ إلى ذكاءٍ خارقٍ، بل إلى قليلٍ من الاهتمامِ. و الآن..ما رأيُكم ؟
ـ موافقون.
قال الجميع.
و ما إِنْ مضتْ ربعُ ساعةٍ حتَّى كانوا قد اتَّخذوا القرارَ الفعليَّ بالقيامِ بنـزهةٍ على الأقدامِ صباحَ اليومِ التَّالي، شرطَ أن يأخُذَ كلٌّ منهم موافقةَ أهلِه و يعطيهِم تفاصيلَ الطَّريقِ التي سيسلكونَها.
(2)
كان الانْطلاقُ فجرَ اليوم التَّالي مليئاً بالنَّشاطِ و الحيويةِ، خاصَّة حين أوصلَهم والدُ يارا إلى بدايةِ الطَّريقِ التُّرابيةِ المؤدِّيةِ في نهايتِها إلى بيتِ جَدَّيِّ دانيال قائلاً لابنتِه و هو يعطيها هاتفَه الجوّالَ :
ـ اتَّصلوا بي إذا ما صادفَتْكم أيةُ مشكلةٍ.
قفزَ الجميعُ من السَّيارةِ بملابسِ رياضةِ المَشْي، حاملاً حقيبتَه المليئةَ بالطَّعامِ و آنيةِ الماءِ و أدواتِ الرِّحلةِ كسكِّينِ الكشافةِ و البوصلةِ و الكاميرا و المحارمِ الورقيّةِ.
سبقَ سامي الجميعَ إلى اكتشافِ الطَّريقِ، فركضَ مسافةً قصيرةً و هو يتأملُ بنظرةٍ سريعةٍ غنى المكانِ بالأشجارِ المتنوعةِ و الحيوانات البريَّةِ و الزَّواحفِ و الحشراتِ، و عادَ بعدها و على شفتَيْه ابتسامةٌ واسعةٌ سعيدةٌ، و قال بصوتٍ عالٍ تملؤُه البهجةُ :
ـ حسناً أيُّها المغامرون الأبطال.
خافَ دانيال و هو يلتفتُ إلى يارا سائلاً :
ـ يارا... هل ثمَّةَ مخاطر تعترضُ نزهةَ الأقدامِ هذه ؟
استغربَتْ يارا سؤالَ دانيال، لكن لِيا، بنظرتِها الثَّاقبةِ و خيالِها الواسعِ المُشاغبِ في كثيرٍ من الأحيانِ، أدركْت ما رمى إليه من وراءِ سؤالِه خاصَّة و أنَّها لا يمكن أن تتراجعَ عن إلحاقِ صفة الجبانِ به، فقالتْ مُفتعلةً الجِدَّ :
ـ نعم..مخاطرُ. طبعًا يا عزيزي : ثمَّةَ مخاطرُ تعترضُنا و إلا ما نادانا سامي بـ " أيها المغامرون الأبطال ".
و همسَتْ في أُذُنِه كمن يبوحُ بسرٍّ خطيرٍ :
ـ سأشرحُ لك ما قصدَهُ ساميي و نحن نسيرُ في الطَّريقِ التُّرابيِّ.
لكن سامي تبرَّعَ هو بالشَّرحِ قائلاً :
ـ أنا سأشرحُ الموضوعَ يا لِيا.
لكنَّ لِيا اعترضَتْ :
ـ سأشرحُ له مُستخدمةً معلوماتي الغزيرةَ.
و اعترَضَ سامي بدورِهِ :
ـ معلوماتُكِ الغزيرةُ تعتمدُ على القِصصِ و الحكاياتِ.
و تدخَّلَت يارا لصالحِ لِيا :
ـ عظيم يا سامي..ألا تشكِّلُ القِصصُ و الحكاياتُ ثروةً من المعلوماتِ يجبُ ألاَّ نستخفَّ بها ؟
لم يُجب سامي. و فهمَتْ لِيا من عدمِ إجابتِهِ أنَّه يقول لا، فسبقتهُ في الطَّريقِ التُّرابية عابسةً، و لَحِقَ بها دانيال يَنوءُ بحقيبتِهِ الكبيرةِ و بخوفٍ أثقلَ منها، و سألَها بإلحاحٍ و قد كادَ صبرُه ينفَذُ :
ـ المهمُّ أن أعرِفَ الممنوعاتِ قبل أن نتوغَّلَ في الطَّريقِ.
قال سامي جادّاً :
ـ مِن الممنوعاتِ يا دانيال ألاَّ تأكلَ من النَّباتاتِ و الثِّمارِ التي تجدُها في الطَّريقِ.
التفتَتْ لِيا إليه :
ـ ألم ترَ ماحصلَ لـ ( بياضِ الثَّلجِ ) حين أكلَتِ التُّفاحةَ المسمومةَ من يدِ العجوزِ ؟ لقد فقدَتْ وعيَها و كادَت تموتُ.
ضحكَ سامي و ضحكَتْ يارا، لكنَّ دانيال التفتَ إلى سامي طالباً منه برجاءٍ أن يتابعَ، فقال :
ـ و ألاَّ تقتربَ يا دانيال من الحيواناتِ الغريبةِ : لا تضْرِبْها و لا تُقَدِّمْ لها الطَّعامَ و لا..
قالتْ لِيا مُقاطعةً :
ـ و لا تُحادثْها أيضاً، و أعتقدُ أنكَ رأيت نتيجةَ حديثِ ( ذاتِ القبَّعةِ الحمراءِ ) مع الذِّئبِ الشَّريرِ؛ لقد أكلَها و أكلَ جدَّتها، و لا أضمنُ أن يأكُلَكَ و يأكُلَ جدَّتكَ هذه المرة....هَمْ..هَمْ..مْ.. مْ.. مْ.
تراجعَ دانيال خَطوتين إلى الخلفِ خائفاً، و جحَظَت عيناه أكثرَ، فقال سامي بسرعة :
ـ و يجبُ ألاَّ تفكِّرَ بأن تسلُكَ طريقاً وحدَك تاركاً بقيةَ الرُّفَقاءِ.
قالت لِيا :
ـ فقد تضيعُ كما ضاعَ ( عُقْلَةُ الإصبع ) و إخوتُه فدخلوا إلى بيت الغولِ الشَّريرِ.
و ما إِنْ سمِعَ دانيال اسمَ الغولِ الشَّريرِ حتى اهتزَّت ركبتاهُ و ابتعدَ عن لِيا ملتصقاً بسامي و يدُه اليُمنى تبحثُ من خارجِ حقيبتِه عن زجاجةِ الماءِ لِيبُلَّ ريقَهُ و هو يطالبُ سامي بإلحاحٍ أن يُتابعَ ذِكرَ المخاطرَ، فقال :
ـ و ألاَّ تُشْعلَ النَّار إلا إذا عَرَفْت أصولَ إشعالِها و أصول إطفائِها.
سأل دانيال بقلقٍ :
ـ يعني ؟
قال سامي :
ـ يعني أنه يجبُ إشعالُ النَّارِ بعيداً عن الأشجارِ و الحشائشِ و الأوراقِ ثم إخمادُها تماماً بالماءِ و التُّرابِ بعد الانتهاءِ منها.
وقفَ دانيال في مكانِه و قالَ بصوتٍ عصبيٍّ مخاطباً الجميع بعد أن وضعَ الحقيبةَ أرضاً و سحب منها زجاجةَ الماءِ :
ـ النَّار لا تهمُّني ما دمْتُ لن أشاركَ في إشعالِها و إطفائِها، فأنا أصغرُكم و لن أخوضَ هذه التَّجربةَ قبل أن أُصبحَ في...
قالتْ لِيا ضاحكةً و هي تفتَحُ له غِطاء الزُّجاجة و تناوله إيّاها :
ـ قبلَ أن تُصبحَ في الأربعينَ. على كلِّ حالٍ.. يا صديقي الصَّغير، مهما كانَ الخطرُ الذي ستتعرَّض له فلدينا علبةُ إسعافٍ تكفي لإِنقاذكَ...
و كادَ يَغُصُّ بجُرعةِ الماءِ و هو ينظرُ إلى عُلبةِ الإسعافِ التي تحملُها يارا كما لو كان ينظرُ إلى عِفْريتٍ. و يبدو أنَّ يارا أدركَتْ ما يفكِّر به فحاولَتْ أن تخفِّفَ من خوفِه و هي تُعيدُ إِغلاقَ غِطاءِ زجاجةِ الماءِ و تضعُها من جديدٍ في حقيبتهِ، فقالت :
ـ علبةُ الإِسعافِ تُستخدَمُ إذا تعرَّضَ أحدُنا إلى عضَّة حيوانٍ أو حشرةٍ، أو وقعَ أرضاً، أو...
و قاطعَتْها لِيا و هي تفسَحُ المجالَ واسعاً لخيالِها القصصي :
ـ أو تَدحرجَ مِن أَعلى الجبلِ إلى أسفلِ الوادي، أو عضَّتْه حيَّةٌ سامَّةٌ..
قفزَ دانيال في مكانهِ ستَّ أو سبعَ قفزاتٍ، و بدا الهلعُ في عينيه، فنظر سامي و يارا إلى لِيا بغضبٍ، فسارعَتْ يارا لتُمْسِكَه من كتفيْه و تشدَّه إلى صدرِها، قائلةً للِيا بعتبٍ :
ـ كفاكِ مُزاحاً يا لِيا.
قالتْ لِيا غاضبةً :
ـ لستُ أمزحُ.
فردَّتْ يارا و هي تَشُدُّ يدَهُ في الطَّريقِ محاولةً إبعادَه عنها :
ـ لا تمزحينَ و لكنَّكِ تُبالغين.
فخاطبَها سامي و هو يتركُ لِيا و يلحَق بيارا و دانيال :
ـ قلْتُ لك يا يارا إنَّ ثروتَها من القصصِ و الحكايات قد تؤدِّي إلى مشاكلَ.
ركضَتْ لِيا إليه بغضبٍ :
ـ قلتَ لها ؟ متى قلتَ لها ؟
قال سامي بقلقٍ :
ـ الآن.
قالتْ لِيا رافعةً سَبَّابتَها في وجههِ :
ـ بل البارحة. لقد تحدثْتَ بما فيه الكفايةِ ضدي، و ربما كنتَ تعنيني بالأمسِ وقْتَ قلتَ إِنَّ اختيارَ أصدقاءِ التَّجْوالِ قبلَ القيامِ بالرِّحلةِ أمرٌ في غايةِ الأهميةِ.
تراجعَ سامي خَطوةً نحو الوراءِ قائلاً بتَحَدٍّ :
ـ كنت أُردِّدُ هذه الجملةَ التي حفظتُها منذ زمنٍ بعيدٍ، لكنَّني لم أعرفْ معناها الحقيقيَّ إلاَّ الآن.
نظرَت إليه لِيا بغضبٍ و سبَّابتُها تكاد تدخُلُ في عينِه لو لم يُرجِعْ رأسَه إلى الخلفِ :
ـ إنَّكَ تثرثرُ كما تثرثرُ نساءُ الفُرْنِ..
و رفع سبَّابَته في وجهِها غاضباً :
ـ و أنتِ أخفتِ الصَّبيَّ الصَّغيرَ حتى كادَ قلبُهُ يتوقفُ.
قالَتْ :
ـ لسْتَ ساميِّي، بل أنتَ مجردُ سامي.
و لم يكنْ صوتُ يارا لِيعلوَ لو لم تصلِ الأمورُ إلى حدٍّ لا تُطاقُ فيه، فصرخَتْ :
ـ كفى !
كلمةٌ واحدةٌ جعلتْهما يَصمُتانِ تماماً، قالتْ بعدَها بصوتٍ هادئٍ و هي تشيرُ براحةِ يدِها إلى الطَّبيعةِ السَّاحرةِ :
ـ اسمعوا. انظروا إلى الطَّبيعةِ، إلى الأزهارِ و النَّباتاتِ. تأملوا الحشراتِ و الفراشاتِ و الزَّواحفِ. ألم نتفقْ على جمعِ أحلى الأزهارِ و تصوير أحلى المناظرِ ؟ ألم نُحضِرْ معنا الملابسَ الفوسفوريةَ و المصابيحَ للعودة ليلاً و نحن نُغنَّي أجملَ الأغاني فيرانا الكلُّ و يثني على فكرتِنا ؟
و سألَتْ فجأة :
ـ كم السَّاعةُ الآن ؟
قال دانيال :
ـ السَّابعةُ صباحاً.
قال سامي رافعاً كتفَيْه رافضاً فكرةَ وجودِه مع لِيا لساعاتٍ طويلةٍ :
ـ يا سلامْ ! تحمَّلوا حتى السَّابعةِ مساءً.
فقالت لِيا و هي تعترضُ طريقَهُ غاضبةً :
ـ لسْتَ مُضْطرّاً للاحْتمالِ.
فقالَ و هو يستديرُ :
ـ حسناً، سأعودُ إلى البيتِ.
و تعلَّقَ دانيال بمعطفِه راجياً :
ـ خُذْني معك، فأنا خائفٌ..
قالتْ لِيا :
ـ أحسنْ.
لكنَّ يارا نظرَت إلى الجميع نظرةً مليئة بالأسفِ، و استدارتْ نحو بدايةِ الطَّريقِ التُّرابيةِ قائلةً :
ـ عودوا جميعاً..اقضوا عطلة الرَّبيعِ كالعادة كسالى أمامَ أجهزةِ التِّلفازِ أو أجهزةِ الكومبيوتر حتى يكادَ الدُّم يتجمدُ في عروقِكم كسلاً و يعلو الشَّحمُ بطونَكم و تَنْضُب أفكارُكُمْ.
و قبلَ أن يتفوَّهَ أحدٌ من الثَّلاثةِ بكلمةٍ يتمسكُ فيها بهذه الرِّحلة التي كان يُفتَرَضُ أن تكون رائعةً بالفعلِ، استدارتْ يارا عائدة إلى طريقِ القريةِ المزفتْ و هي تَرسُمُ بين حاجبَيْها إشارةً عابسةً كانوا يعرفون أنه من غير السَّهلِ أن تُسْتبدَلَ، ثم سارعت بخطواتٍ ثابتةٍ سريعةٍ بعد أن قالت جملةً حازمةً أطاعَها الجميعُ :
ـ لِنَعُدْ جميعاً.