الارشيف / ثقافة و فن

الجذور الاجتماعية للنقد الثقافي‎

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

إنَّ النقد الثقافي لا يَعْني تحليلَ الأنساقِ الثقافيةِ الكامنةِ في النُّصُوصِ الأدبية فَحَسْب، بَلْ يَعْني أيضاً تَفكيكَ الأفكارِ الفلسفية الراسخة في الصُّوَرِ الإبداعية الفَنِّية، وإعادتها إلى أشكالها الأوَّلِيَّة في الواقعِ اليَوْمِي، وإرجاعها إلى جُذورها الاجتماعية في الأحداث الحياتية. والثقافةُ لَيْسَتْ تَجميعاً للكَلِمَاتِ وتَنميقاً للعِبَاراتِ وتَزويقاً للدَّلالاتِ، وإنَّما هي تَجسيدٌ للوَعْي الاجتماعي بَين مَا هُوَ كائن وَمَا يَنبغي أن يَكُون. وكُلُّ حالةٍ إبداعيةٍ تُمَثِّل اندماجاً بَين رُوحِ النَّصِّ ورُوحِ المُجتمعِ، مِمَّا يُسَاهِم في كَشْفِ جَوهرِ التاريخ شخصيّاً وجَمَاعِيّاً، وإظهارِ تَحَوُّلاتِ الفِعْل الاجتماعي تاريخيّاً وحَضاريّاً، وإبرازِ امتداداتِ سُلطةِ العملِ الأدبي أُفقيّاً وعَمُوديّاً.

والنقدُ الثقافي لَيْسَ مُوضةً عابرةً، ولَمْ يَجِئْ مِن العَدَمِ، ولا يَتَحَرَّك في الفراغ، بَلْ هُوَ تَجربةٌ إنسانية مُتكاملة لها جُذور اجتماعية عميقة، ومَصْدَرٌ أساسي للمَعرفةِ المُسْتَتِرَةِ في تفاصيل المُجتمع، وإعادةُ إنتاج للعلاقات الاجتماعية كأدواتٍ لُغَوية لتفسيرِ المفاهيم المُسيطرة على الواقع اليَوْمِي، وإعادةُ تَشكيل للتَّرَاتُبِيَّةِ الهَرَمِيَّة كَآلِيَّاتٍ ثقافية لتأويلِ الخِطَاب المُهيمِن على الأحداث الحياتية.

وإذا كانَ المُجتمع يَستمد سُلطته الاعتبارية مِن مَصادرِ المعرفة، فَإنَّ النقد الثقافي يَستمد طاقته الرمزيةَ مِن جُذوره الاجتماعية. وإذا اندمجت السُّلطةُ الاعتباريةُ معَ الطاقةِ الرَّمزية، فإنَّ مَرجعية اللغةِ سَوْفَ تَتَكَرَّس في الإبداعِ الأدبي وَالوَعْيِ الاجتماعي معاً، ويُصبح جَسَدُ اللغةِ بَحْثاً دائماً عَن المَعْنَى، وتَجسيداً مُستمرّاً للأنساقِ الثقافية القادرةِ على الجَمْعِ بَيْن المَركزي والهامشيِّ.

وكُلُّ عَمَلِيَّةٍ نَقْدِيَّةٍ لا تُصبح مَنظومةً حياتيةً شَرْعِيَّةً إلا إذا قامتْ على مُسَاءَلَةِ الأنساقِ الثقافية في تَحَوُّلاتِ الزمانِ والمكانِ داخل العمل الأدبي، واعتمدتْ على تَكوينِ نِقَاط تَوَازُن بَيْن المَعرفةِ والسُّلطةِ داخلِ اللغةِ والمُجتمعِ معاً، باعتبار أنَّ اللغةَ والمُجتمعَ هُمَا المَجَالان الحَيَوِيَّان للثقافةِ فِكْراً ظاهراً ونَسَقاً مُضْمَراً ونِظَاماً وُجوديّاً.

وإذا كانَ الفَصْلُ بَيْن المَعْنَى والمَبْنَى في جَسَدِ اللغةِ يُؤَدِّي إلى انهيارِ العملِ الأدبي، فإنَّ الفصل بَين الرُّوحِ والمَادَّةِ في النَّقْدِ الثقافي يُؤَدِّي إلى انهيارِ الوَعْي الاجتماعي. وهذا يَدُلُّ على ضَرورة التلاحم بَين المَرجعيات الفِكريةِ والاجتماعيةِ، مِن أجْلِ تَحريرِ كَينونةِ الإنسانِ مِن قَبْضَةِ النظامِ الاستهلاكي الذي يَخْنُق رُوحَ المُجتمعِ، وتَحريرِ هُوِيَّةِ التَّعبيرِ الفَنِّي مِن شظايا الانفجار اللغوي التي تُمَزِّق رُوحَ النَّصِّ، وتُحِيله إلى خِطَابٍ مَعرفي وَهْمِي عاجز عن التوفيق بين الأصالةِ والمُعَاصَرَةِ مِن جِهَة، وبَين الحَداثةِ وَمَا بَعْد الحَداثةِ مِن جِهة أُخْرَى.

إنَّ الاندماج بَين رُوحِ النَّصِّ ورُوحِ المُجتمعِ يَهْدِف إلى التنقيب عَن الأنساق الثقافية في الوَعْي الاجتماعي باستخدام اللغةِ بِوَصْفِهَا أداةَ حَفْرٍ في المَكبوتِ والمُهَمَّشِ والمَنْسِيِّ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَفعيلِ النقد الثقافي كَسِياسةٍ لُغوية، ومَنهجيةٍ وُجودية، ومَركزيةٍ حضارية، ومَرجعيةٍ مَعرفية،  وتَفعيلِ المَبادئ الإنسانية في الجُذور الاجتماعية للنقد الثقافي. وهذا التَّفعيلُ المُزْدَوَجُ يَدفَع العمليةَ النقدية باتِّجاه التَّركيز على المَحمولِ الفِكري لا الحاملِ اللغوي، أي : التركيز على المَعاني العميقةِ والأنماطِ المُضْمَرَةِ والرسائلِ الغامضةِ في العملِ الأدبي كِيَاناً وكَينونةً، بعيداً عَن الانبهارِ بِجَمَالِيَّاتِ النَّصِّ وشِعْرِيَّةِ اللغةِ ولَمَعَانِ الألفاظِ المُنَمَّقَةِ وبَرِيقِ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدْهِشَةِ. والنقدُ الثقافي لا يُصبح نظاماً ومَنظومةً إلا إذا كَشَفَ عَن عملياتِ الاحتراقِ الفِكْري والانفجارِ المَعرفي داخل لُغَةِ العمل الأدبي، ولَمْ يَنخدع بلمعانِ الإطارِ وبَرِيقِ الصُّورة. وجَوْهَرُ العملِ الأدبي يَكْمُن في النَّوَاةِ الداخلية السِّرِّية، ولا يَكْمُن في مَظْهَرِه وبَلاغةِ لُغته ورَوْعَةِ أُسلوبه.

والجُذُورُ الاجتماعية للنقد الثقافي لَيْسَتْ مَرجعياتٍ فِكرية وتاريخية فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضاً هُوِيَّات فَرْدِيَّة وجَمَاعِيَّة، والهُوِيَّةُ الإنسانيةُ لا تُصبح سُلطةً مَعرفية إلا إذا تَمَّ فَحْصُها واختبارُها، وهذا يَستلزم تَحويلَ رَمزيةِ اللغةِ إلى مِحْوَر ارتكاز بَيْن النَّسَقِ المُضْمَرِ والنَّسَقِ الظاهر، وتَحديدَ طَبيعة حركتهما في الفَضَاءِ اللغوي والمَجَالِ الاجتماعي تَزَامُنِيّاً وَتَعَاقُبِيّاً.

واللغةُ هي نِشَاطٌ اجتماعي، والمُجتمعُ هُوَ خِطَابٌ لُغَوي، ولا يُمكِن صَهْرُهما في حَقْلٍ مَعرفي واحد إلا بواسطة النقد الثقافي، الذي يُعيد صِيَاغَةَ مَنطِقِ اللغة الرمزي بِتَحريكِ المَركزِ، وزَحزحةِ الهَوامشِ، مِن أجْلِ تَحويلِ العملِ الأدبي إلى مَنهج نَقْدِي مُستمر، وتَحويلِ الواقعِ إلى فاعليَّة ثقافية دائمة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَفسيرِ المَرجعيات الفِكرية ضِمْن سِيَاقَاتِهَا التاريخية والحَضارية، وتَمييزِ الأنساق الثقافية المُسيطِرةِ عَن المُهَمَّشَةِ، وتَمييزِ الوَعْي الاجتماعي الحاضر عَن المُغَيَّب، وهذا الأمرُ ضَروري مِن أجْلِ تَحديدِ التَّطَوُّراتِ الثقافية في هُوِيَّةِ المُجتمع الإنسانية، وتَحديدِ التَّحَوُّلاتِ الاجتماعية في سُلطةِ النَّصِّ الأدبي. ولا تُوجَد ثقافة بِدُون مَعايير نَقْدِيَّة، ولا يُوجَد مُجتمع بِدُون حراك ثقافي إنساني. وهذا يَستلزم تَعرية الأنساق الثقافية الوَهْمِيَّة، وفَصْلها عَن طبيعة الواقع اليَوْمِي، الذي تَجِب تَنقيته مِن مُخَلَّفَاتِ الوَعْي الزائف، وإفرازاتِ النظامِ الاستهلاكي. وَسَيَبْقَى النقدُ الثقافي مُحَاوَلَةً لِتَطهيرِ رُوحِ النَّصِّ ورُوحِ المُجتمعِ مِن المَادِيَّة المِيكانيكية المصلحية.

 

المجلة غير مسؤولة عن الآراء و الاتجاهات الواردة في المقالات المنشورة

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

قد تقرأ أيضا